فصل: تفسير الآيات (42- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (39):

{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي الأجزاء ما كنتم تعملونه من السيآت أو إلا بما كنتم تعملونه منها.

.تفسير الآية رقم (40):

{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)}
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء منقطع من ضمير {ذائقو} [الصافات: 38] وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلًا فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه إلخ.
ويجوز إن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، وقيل: استثناء منقطع من ضمير {تُجْزَوْنَ} [الصافات: 39] على أن المعنى تجزون ثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافًا مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا، ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الاستثناء من ذلك متصلًا بتعميم الخطاب في {تُجْزَوْنَ} لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر، و{المخلصين} صفة مدح حيث كانت الإضافة للتشريف.

.تفسير الآية رقم (41):

{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)}
{أولئك} أي العباد المذكورون، وفيه إشارة إلى أنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادته تعالى عمن عداهم امتيازًا بالغًا، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل.
وهو مبتدأ وقوله تعالى: {لَهُمْ} أما خبر له وقوله سبحانه: {رّزْقِ} مرتفع على الفاعلية للظرف وإما خبر مقدم و{رّزْقِ} مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ والمجموع كالخبر للمستثنى المنقطع على ما أشرنا إليه أو استئناف لما أفاده الاستثناء إجمالًا بيانًا تفصيليًا وقوله تعالى: {مَّعْلُومٌ} أي معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة، فلا يقال إن الرزق لا يكون معلومًا إلا إذا كان مقدرًا قدار وقد جاء في آية أخرى {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] وما لا يدخل تحت الحساب لا يحد ولا يقدر فلا يكون معلومًا، وقيل المراد معلوم الوقت لقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وعن قتادة الرزق المعلوم الجنة، وتعقب بأن {فِي جنات} [الصافات: 43] بعد يأباه. واعترض بأنه إذا كان المعنى وهم مكرمون فيها لم يكن به بأس. وأجيب بأن جعلها مقر المرزوقين لا يلائم جعلها رزقًا وأما إذا كان قيدًا للرزق فهو ظاهر الإباء، وكون المساكن رزقًا للساكن فإذا اختلف العنوان لم يكن به بأس لا يدفع ما قرر كما لا يخفى على المنصف.

.تفسير الآيات (42- 43):

{فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)}
، وقوله تعالى: {فواكه} بدل من {رّزْقِ} بدل كل من كل، وفيه تنبيه على أنه مع تميزه بخواصه كله فواكه أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة أي ذلك الرزق فواكه والمراد بها ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم لكونهم مستغنين عن القوت لأحكام خلقتهم وعدم تحلل شيء من أبدانهم بالحرارة الغريزية ليحتاجوا إلى بدل يحصل من القوت، فالمراد بالفاكهة هنا غير ما أريد بها في قوله تعالى: {وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20، 21] وهي هناك بالمعنى المعروف فلا منافاة. وجوز أن يكون عطف بيان للرزق المعلوم فوجه الاختصاص ما علم به من بين الأرزاق أنه فواكه، وقيل: هو بدل بعض من كل، وتخصيصها بالذكر لأنها من أتباع سائر الأطعمة فتدل على تحقق غيرها {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عند الله تعالى لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم، ولعل هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي هو بواسطة الأكل.
وقيل مكرمون في نيل الرزق حيث يصل إليهم من غير كسب وكد وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا.
وقرئ {مُّكْرَمُونَ} بالتشديد.

.تفسير الآية رقم (44):

{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)}
{على سُرُرٍ} يحتمل أن يكون حالًا من المستكن في {مُّكْرَمُونَ} أو في الظرف قبله وأن يكون خبرًا فيكون قوله سبحانه: {متقابلين} حالًا من المستكن في أو في {مُّكْرَمُونَ} أو في الظرف أعني {فِي جنات} وأن يتعلق تقابلين فيكون حالًا من المستكن في غيره.
وأشير بتقابلهم إلى استئناف بعضهم ببعض فبعضهم يقابل بعضًا للاستئناف والمحادثة. وفي بعض الأحاديث أنه ترفع عنهم الستور أحيانًا فينظر بعضهم إلى بعض، وقرأ أبو السمال {سُرُرٍ} بفتح الراء وهي لغة بعض تميم وكلب يفتحون ما كان جمعًا على فعل من المضعف إذا كان اسمًا، واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح فيقول ذلل بفتح اللام على تلك اللغة. ومنهم من خص ذلك بالاسم وهو مورد السماع. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (45):

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)}
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ} إما استئناف لبيان ما يكون فهم في مجالس أنسهم أو حال من الضمير في {متقابلين} [الصافات: 44] أو في أحد الجارين: وجوز كونه صفة لمكرمون. وفاعل الطواف على ما قيل من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي الصحيح أنهم خدم أهل الجنة. وقد صرح به في موضع آخر وهو قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] وقوله سبحانه: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} [الطور: 24] {بِكَأْسٍ} أي بخمر كما روى عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وغيرهما عن الضحاك قال: كل كأس ذكره الله تعالى في القرآن إنما عني به الخمر. ونقل ذلك أيضًا عن الحبر. والأخفش وهو مجاز مشهور نزلة الحقيقة. وعليه قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة ** وأخرى تداويت منها بها

ويدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقًا للمحل على الحال قوله شربت. وتقدير شربت ما فيها تكلف. والقرينة هاهنا ما يأتي بعد. وجوز تفسيره عناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر، وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسًا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح، والخمر ليس تعين، قال في البحر الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسًا إلا وفيه ذلك، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسًا يقال كأس خال ويقال شربت كأسًا وكأس طيبة، ولعل كلامه أظهر في أن تسمية لخالي كأسًا مجاز، وحكى عن بعضهم أنه قال: الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره {مّن مَّعِينٍ} في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع. وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية.
ووصف به خمر الجنة تشبيهًا لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارًا جارية في الجنان. ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبئ عن دوسها بها قوله:
بنت كرم يتموها أمها ** ثم هانوها بدوس بالقدم

ثم عادوا حكموها فيهم ** ويلهم من جور مظروم حكم

وقول الآخر:
وشمولة من عهد عاد قد غدت ** صرعى تداس بأرجل العصار

لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت ** منهم فصاحب فيهم بالثار

وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة، وجوز أن تكو ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر، وتفيد الآية وصف مائهم باللذة والنشأة، وما ذكر أولًا هو الظاهر نعم قال غير واحد: لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما.

.تفسير الآية رقم (46):

{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)}
{بَيْضَاء} وصف آخر للكاس يدل على أنها مؤنثة. وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضًا من اللبن. وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ {صَفْرَاء} وقد جاء وصف خمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء

والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ** أتت في ثيابي نرجس وشقائق

حكت وجنة المحبوب صرفًا فسلطوا ** عليها مزاجًا فاكتست لون عاشق

{لَذَّةٍ للشاربين} وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة، وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ عنى لذيذ كطب عنى طبيب حاذق، وأنشدوا قوله:
ولذا كطعم الصرخدي تركته ** بأرض العدا من خشية الحدثان

يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام، وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه عنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد، وقوله:
بحديثك اللذ الذي لو كلمت ** أسد الفلاة به أتين سراعا

وفي قوله تعالى: {لِلشَّارِبِينَ} دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائنًا من كان.

.تفسير الآية رقم (47):

{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)}
{لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده، وقال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحسن به يقال غاله يغوله غولًا واغتاله اغتيالًا، ومنه سمي السعلاة غولًا، والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلًا.
وروى البيهقي. وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع؛ وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر، وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأرزق قال: أخبرني عن قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} فقال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنا قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول امرئ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها ** وسقيت النديم منها مزاجا

وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن، وروى ذلك عن مجاهد. وابن زيد. وابن جبير.
واختير التعميم وإن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول، وفيه كلام في كتب المعاني {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي لا يسكرون كما روى عن ابن عباس وغيره، وهو بيان لحاصل المعنى، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئًا بعد شيء، ونزف الهم دمعه نزعه كله، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه، فلا ينزفون مبنيًا للمفعول كما قرأ الحرميان. والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بعن قيل لتضمينه معنى يصدرون، وقيل عن للتعليل والسببية، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وله سميت الخمر أم الخبائث، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وقرأ حمزة. والكسائي {يُنزَفُونَ} بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازمًا فهو مثل كبه فأكب، وهو أيضًا عنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه، قال الأبيرد اليربوعي:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ** لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

وفي البحر أنزف مشترك بين سكر ونفد فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شربه، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك.
وقرأ ابن أبي إسحاق {يُنزَفُونَ} بفتح الياء وكسر الزاي، وطلحة بفتح الياء وضم الزاي، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القيء وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها، ولولا أن الجمهور على ما سمعت أولًا حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت: إن هذا التفسير هو الأولى.